عنصريتهم وعنصريتنا
د. مهند العزة
الأزمات على ما تحمله من أعباء وتخلفه من أحزان، فثمة جوانب فيها لا بد من تأملها وتحليلها والبناء على نتائجها خصوصاً على المستوى المسلكي الفردي أو الجمعي الذي غالباً ما تبرز الأزمة مكنونه من حيث سويته ورقيه أو تناقضاته وبشاعته.
أظهرت الحرب الروسيا الأوكرانيا الأصالة والنذالة والشهامة والخسة والإنسانية والوحشية وكل متناقض من القيم التي اجتمعت في وجدان عدد من أفراد السلطات في بولندا التي كانت في الأمس القريب تدفع اللاجئين السوريين والأفارقة والآسياويين عن حدودها بالهروات والرفسات، فإذا بها اليوم تفتح ذراعيها ملء معابرها للاجئين الأوكرانيين دون أن تتخلى عن عنصريتها الفجة ضد العرقيات الأخرى التي تعقد لهم الحاجبين وتؤثر عليهم أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء.
هذه الحرب كشفت أيضاً عن تغلغل التمييز والنزعة الاستئصالية لدى البعض في أروبا وأمريكا ممن بثوا رسائل مسمومة خرجت من أفواه تفوح منها رائحة العنصرية الكريهة، متباكيةً على الأوكرانيين «شبيهي الأروبيين.. مستخدمي تكنولوجيا التواصل على إنستغرام وتيكتوك وتويتر.. المنزّهين عن أن يكونوا أفارقة سود أو آسياويين بعيون ضيقة أو عرب بشرتهم حنطية..» وما إلى ذلك من البذاءات العنصرية المقيتة التي أطلقتها موتورة هنا وفشي هناك، في تجسيد بشع للتردّي إلى أسفل درك يمكن أن تصل إليه أخلاق بشر.
الممارسات المشينة للسلطات اليمينية في بولندا والعبارات المهينة الصادرة عن البعض في أوروبا وأمريكا -على فظاعتها- تمثل الاستثناء الذي ترفضه الأغلبية في هذه الدول وتتبرأ منه، كيف لا وألمانيا وغيرها من «دول الكفر»هي من فتحت أبوابها على مصراعيها لملايين اللاجئين السوريين حينما أوصدت في وجوههم دول مهبط الوحي وباكورة دخول الإسلام كل باب، وهذه الدول عينها التي تولى فيها أفارقة وآسياويون وعرب مسلمون مناصب عامة رفيعة كما هو الحال في أمريكا وألمانيا والنمسا وإنجلترا التي أصبحت منذ عقود نموذجاً للتنوع وتعدد الثقافات إلى الحد الذي تولى رجل من أصول آسياوية منصب عمدة عاصمتها دون أن يصرخ إنجليزي أصلي في وجهه «أن لا ولاية لغير المسيحي والإنجليزي علينا».
العنصرية ممارسة شاذة مرفوضة من الغالبية الساحقة في الدول الديمقراطية الحقة، لأنها تمثل خرواجاً على المبادئ الدستورية والقيم الجمعية التي ارتضتها شعوب هذه الدول لتكون عقدها الاجتماعي ومرجعيتها الأخلاقية في بناء مجتمعاتها وتكوين ثقافتها، فهل هي كذلك في تراثنا وثقافتنا؟
موجة استهجان الممارسات العنصرية ضد الهاربين من الحرب في أوكرانيا من الأفارقة والعرب والآسياويين التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي عندنا، مع تسليمنا بضرورتها ومشروعيتها، تعكس في جانب منها الازدواجية اللا واعية المتجذرة في غالبية المجتمعات الإسلامية والعربية التي تتغافل عن حقيقة أن هذه الممارسات المُستهجَنة تحتل مساحةً كبيرةً في موروثها الفكري والثقافي بوصفها جزء من منظومة الأوامر التي ينبغي الامتثال لها أو النواهي الواجب اجتنابها. فدعوات التحريض على المخالف والمختلف التي تعج بها عديد من أمهات الكتب تمثل شرعنةً للعنصرية والتمييز لا ينكرها أصحابها، ابتداءً من «امتهان غير المسلم بفرض الجزية عليه والتفنن في إذلاله وتحقيره وهو يدفعها ليتحقق معنى الصغار» كما قطع بذلك بعض الفقهاء والمفسرين ومن بينهم الطبري https://rb.gy/2aario وابن كثير https://rb.gy/p5qtar ، مروراً بتحريم جانب من الفقهاء « مبادأة المسلم للمختلف عنه في الدين السلام أو تهنئته في عيده ووجوب تنحيته من صدر المجلس»، ثم التمييز ضده حتى وهو ميت في ما يمكن تسميته ب«عنصرية الموتى» التي سبقنا بها الأولين والآخرين، إذ «يحرم على المسلم الصلاة على غير المسلم والدعاء له والترحم عليه»، ثم ثالثة الأثافي، عنصرية الجغرافيا التي بموجبها حُظَرَ على غير المسلمين دخول مكة والمدينة –وعند بعض الفقهاء كامل شبه الجزيرة العربية- «لأنهم نَجَس» كما فصّل في ذلك كله ابن القيم في مصنفه «أحكام أهل الذمة https://rb.gy/jemzci ».
هذه الأحكام التمييزية العنصرية وغيرها تمثل عند الفقه الراجح القاعدة التي لا يمكن الخروج عليها إلا «لضرورة أو درأ مفسدة »، فهي من الثوابت الأصل فيها الاتباع والاجتناب بحسب الحكم وتحت طائلة المساءلة، فمن هنأ المختلف في الدين بعيده أو صلى عليه إذا مات أو دعا له بالرحمة، أو مكّنه من دخول مكة أو المدينة.. يعد «آثماً» عليه التوبة والاستغفار وعلى الحاكم تعزيره.
من جهة أخرى، فإن ما يتم رصده من عبارات وممارسات عنصرية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين من قبل البعض خصوصاً في لبنان وعدد من دول الخليج، وما يمارس من تمييز وإقصاء ضد المقيمين العرب والأفارقة والآسياويين في عدد من دول المنطقة التي وصلت نازية البعض فيها إلى حد التحريض عليهم ودعوة حكوماتهم إلى «طردهم وإلقائهم في الصحراء ليموتوا جوعاً وعطشا» بل كانت السلطات الصحية في بعض تلك الدول في بداية جائحة كورونا ترفض إدخال المقيمين المصابين إلى المستشفيات وتعطي الأولوية لمواطنيها في النجاة والحياة، هذا بخلاف الطائفية التي أشعلت وما تزال حروب وأزمات في لبنان والعراق، ومظلومية الأمازيغ في دول المغرب العربي، وتقييم الشخص وفعله وموقفنا منه عندنا بناءً على اسم عائلته وعشيرته ومعتقده.. كل هذه الأفكار والمسلكيات تؤكد وتجسد الأثر المتسلسل للنظرة العنصرية الفوقية المتأصلة المتوارثة التي ترى في غير المسلم «قيمة مبتذلة»، ثم تنتقل لتمايز ما بين المسلمين أنفسهم، فتعتبر مثلاً «العبد أقل من الحر في الدية والقصاص وحرمة التكامل الجسدي.. والرجل أفضل وأكمل من المرأة في العقل والدين والدنيا.. والعرب أفضل ممن عداهم من العرقيات المسلمة الأخرى وهم أولى بولاية الأمر.. وفي ما بين العرب يسمو القرشي على من دونه من سائر القبائل العربية..»، وهكذا من سياق إلى سياق ومن نطاق إلى نطاق.
النفس السوية لا يمكنها إلا أن تنبذ العنصرية، ولا يمكن إلا للنفس الموبوءة بالتناقضات القيمية والأخلاقية أن تقيسها بحسب مرتكبها وضحيتها، وأياً كانت المرجعية الفكرية أو الثقافية للعنصرية، فإنها ممارسة بغيضة تعكس شيفونية ونرجسية مقيتة، فعنصريتهم وعنصريتنا في القبح سواء، وعلى كل مستنكر نقيصةً في غيره أن يمتثل قول أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يعظ المرائين المستحلّين لأنفسهم ما ينكرونه على غيرهم قائلاً لهم: "لا تنهى عن خلقٍ وتأتي مثلهُ * عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ”.