عثمان محمد الأخرس يكتب:-قراءة في رواية عندما تزهر البنادق
جهينة نيوز - رواية من منشورات دار فضاءات للنشر والتوزيع ، وهي معنونة باسم .... ( عندما تزهر البنادق ) ( دير ياسين ) ، للكاتبة الأردنية بديعة حسن النعيمي ، عدد صفحات الرواية 173 صفحة ، وهي رواية تنتمي إلى الطابع الوطني التاريخي ... وقد تناولت الكاتبة في روايتها ( قرية دير ياسين ) لتسلط الضوء على العديد من الأحداث المهمة التي مرت في تاريخ هذه القرية .وهذه ليست أولى الروايات التي قدمتها الكاتبة ، فقد سبق للكاتبة وان قدمت أولى أعمالها الروائية في عام 2018 ( فراشات شرانقها الموت ) ، ثم رواية أخرى في عام 2019 ( مزاد علني ) ، وفي عام 2020 قدمت (عندما تزهر البنادق ) ، ثم ( حنظلة ) وهو آخر ما كتبت في عام 2021 .
ولكي نكون منصفين , فقد قرأت رواية عندما تزهر البنادق بالكامل ، واستوقفني هذا العمل الرائع، وما فيه من جهد في تدوين العديد من الاحداث المهمة التي مرت في تاريخ القضية الفلسطينية . ولأن الكاتبة تتحدث في روايتها عن حصار قرية دير ياسين والمذبحة التي ارتكبها العدو الصهيوني في هذه القرية ، فقد اعادتنا إلى الوراء ، إلى ما قبل حدوث المجزرة بسنوات عديده من أجل استيعاب جوانب القضية الفلسطينية تاريخيا ومكانيا ، وقد وثقت الكاتبة في روايتها الكثير من الأسرار والخفايا التي احاطت بتلك الفترة الزمنية والحرجة من تاريخ فلسطين ، وهي الفترة التي شكلت لاحقاً النهاية المأساوية لكل ما حدث في العديد من القرى الفلسطينية التي تم تفريغها من أهلها ، ومن بينهم قرية دير ياسين التي اختارتها الكاتبة لتكون محور اساسي لسرد روايتها ، وقد اختارت ايضا عائلة واحدة من طبقة اجتماعية متوسطة ، وهي من ضمن العائلات التي تعيش في قرية دير ياسين لتكون نموذجاً حياً لقصتها عندما تزهر البنادق . والعائلة مكونة من عميد العائلة الجد الحاج اسعد ومعه أولاده ...
بكر : وهو الابن الاكبر للحاج اسعد وغير متزوج
محمد : ( ابو خالد ) الابن الثاني للحاج وهو متزوج وله ابنتان , هما نجوى الكبرى وجميلة الصغرى
ربحي : ( ابو سالم ) وزوجته وأولاده سالم وزينب وجمال ومحمد .
ايوب : الأبن الرابع للحاج أسعد .. يمتلك شاحنة لنقل الثمار من القرية إلى القدس
اكرم : الابن الأصغر وهو الوحيد الذي أكمل تعليمه في العائلة ويحمل شهادة في مادة التاريخ من كلية القدس ويعمل مدرسا في يافا
وقد فرضت الكاتبة على شخوصها الحرية والحياة بحلوها ومرها قبل حصول المجزرة ، وربطت كل هذه الشخوص بفترات تاريخية سابقة ، ووضعتهم في اطار زمني بدأ منذ عام 1920 حتى عام 1948. ورسمت الكاتبة في روايتها صورة واقعية من حياة أهل القرية المستقرة قبل ان ترسم صورة للهلع والخوف والموت الذي حل بأهل قرية دير ياسين، وقد كشفته الكاتبة من خلال مشاهد رسمتها بدقة بليغة وحوار رائع بلهجة شعبية فلسطينية ، واستطاعت بذكاء أن توظف هذه المشاهد وتحولها إلى موال حزين إن جاز التعبير ، لما اختزنته ذاكرة ( زينب ربحي ) بطلة الرواية والشاهد الوحيد على المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني بحق اهلها الذين قتلوا جميعا في القرية .
كانت الكاتبة موفقة في اختيار المكان ( المصح النفسي في يافا ) والتي بدأت به قصتها ، ليكون المحور الاساسي الذي تبدأ به الرواية ، فهو الوطن الموجوع الذي يشهد جدرانه صرخات زينب في كل يوم وليلة ، فقد حرصت الكاتبة أن تقدم لنا رؤية ( واقعية مأساوية ) في اختيارها للمكان ، ووضعتنا أمام نموذج حي لشخصية زينب المهزومه التي بدأت تخونها الذاكرة منذ أن دخلت المصحة لتعالج نفسيا ، فالصدمة النفسيه التي خلفتها المجزرة في حياة زينب ربطته الكاتبة بصور الماضي ، وهي صور اختزنتها ذاكرة زينب منذ الطفولة، واعادتنا الكاتبة إلى الوراء من خلال الذاكرة المتعبة والضعيفة لزينب التي كانت تعود إليها بين الحين والآخر ، وعندما تعود الذاكرة تهرب زينب بذكرياتها إلى عالم طفولتها في القرية، وإلى جدها الحاج أسعد الذي احبته منذ أن كانت صغيرة .. وهو الذي قال لها يوماً
ـ لا تثقي بالذاكرة كثيرا ، فقد تخون صاحبها .
والكاتبة هنا لم تكتف بالفترة الزمنية التي حدثت بها مجزرة دير ياسين عام 1948 بل ربطت شخوص الرواية ببعض الاحداث التي مرت في فترة زمنية سابقة ، فوجدت الكاتبة فرصتها السانحة لتلقي الضوء على تلك الفترة من التاريخ السياسي لفلسطين ، وما امتلأت به من مؤمرات ودسائس ، واعتبرته جزءاً من ذاكرة الوطن ، وقدمته على أنه كان خيارات مفروضة وصعبة في تاريخ القضية الفلسطينية ، وهي تواريخ واحداث فرضت ارادتها على الشعب الفلسطيني ، ولكنها كانت مقلقة ومأساوية في ذلك الوقت .
ـ ذاكرة الوطن محشوة بالتواريخ الساقطة
وتوغلت الكاتبة في بحر التاريخ والمعلومات التي التي قرأتها عن فلسطين ،وحولتها إلى إلى حقائق ومشاهد درامية لتكون شاهدة على واقع فظ . اسقطته في احدى صفحات الرواية
ـ بعض التواريخ هي بمثابة قنابل موقوته تنهار أمامها قلاع
والتواريخ التي أبرزتها الكاتبة في الرواية هي بماثبة وثيقة للواقع الذي آلت اليه فلسطين فيما بعد . ولم تتجاهل الكاتبة الوظائف السياسية التي قدمها الغرب لليهود ، والذي مهد لاقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين ، فساقت الينا الكاتبة بعفوية رائعة أحداثا بين سطور روايتها ، بدأت منذ انشاء مدينة تل أبيب عام 1909 ، الى دخول الجنرال اللنبي إلى القدس عام 1917 بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية واندثارها ، الى مؤتمر سان ريمو في عام 1920 الذي عهد إلى بريطانيا مسؤولية الانتداب على فلسطين . ونقلتنا بعد ذلك إلى ثورة البراق في القدس عام 1929 ، والتي عبر فيها الشعب الفلسطيني عن الدفاع عن أرضه ومقدساته .
ثم تحدثت الكاتبة في روايتها عن الهجرات اليهودية المتتالية على فلسطين ، وعن المنظمات الصهيونية الإرهابية التي تشكلت في فترة عهد الانتداب البريطاني ، وسجلت بين سطور روايتها أعظم مقاومة قادها عز الدين القسام قبل استشهاده ، وتحدثت أيضاً عن اضراب عام 1936 الذي استمر اكثر من ستة أشهر ، والثورة الشعبية التي هددت الاستعمار البريطاني والصهيوني تهديدا حقيقيا ، ولم تتوقف هذه الهبة الشعبية حتى تدخل ملوك العرب في ايقافها رغبة منهم في التفاهم مع بريطانيا . ولم تنس الكاتبة الدور البطولي الذي لعبه القائد عبد القادر الحسيني واستشهاده في معركة القسطل عام 1948 .
وقد حاولت الكاتبة تخطي حدود التاريخ في روايتها ، حيث تبلورت رؤيتها في الدعوة إلى التراث والاتصال بالماضي . ورسمت صورة نابضة من خلال وضع العديد من الأمثال الشعبية والأهازيج الفلسطينية في أكثرمن صفحة ، وقدعبرت عنها بايجاز وبساطة يمكن أن تثير انتباه القارئ وتعطيه الحق في التأمل ، لأن لها دلالات عميقة ومسايرة للحدث الذي رسمته الكاتبة خاصة وأن هذه الأهازيج والأمثلة الشعبية كانت لها خاصية واسعة الانتشار مع موسم قطاف الثمار أو الخطوبة والزواج ، وهي جزء من ثقافة وعادات وتقاليد القرية الفلسطينية .. وسيجدها القارئ في العديد من صفحات الرواية .
أما الرمزية فهي اشق ما في الرواية ، وقد تعمدت الكاتبة أن تضعها ما بين سطور روايتها ، واستعانت بها لتضع أمام القارئ إبداعات فلسفية جديدة كأداة من أدوات الكاتب لإثراء النص الادبي ، وعبرت عنه الكاتبة بالايحاء والتلميح الذكي من خلال حكاية شعبية أوردتها في الرواية , أو كلمة في جمل قصيرة ، أو رؤية في المنام . كل ذلك أضاف إلى الرواية قيمة أدبية .
وفي إشارة إلى ذلك ... الغليون والتبغ ، والصبار ، وشجر الزيتون ، ورؤية الأفعى في المنام ، وصندوق العجب ، والراوي صاحب الصندوق وحكايته مع أطفال القرية ... كلها اصطلاحات لا تخلو من التأثير على خصوصية موضوع الرواية ... فالغليون والتبغ الذي كان لا يفارق الجد أسعدهو عنوان لتلك المرحلة وموصول في علاقة جدلية ما بين خصوصيتين . الخاصية الأولى هي ( كيان مضطرب ) محتواه القلق والاحباط ، والشعور بالضياع ، والتوهان تحت وطأة التهديد واحتمال فقدان الوطن . والخاصية الثانية هي ( لحظات تجل ) محتواها الراحة والانبساط في الديوانية بعد يوم حافل بالعمل ، وهذا تعبير عن الحالة المزاجية المصحوبة بالسعادة ، والتي تنسجم مع قلب وجوارح الجد أسعد عميد العائلة ، وخاصة عندما يلتقي مع حفيدته زينب التي أحبها واختصها من بين أفراد العائلة .وبعد وفاة الجد أسعد ، صار الغليون والتبغ لاحقاً حق مورث لزينب فقط دون بقية العائلة .
وقد تمكنت الكاتبة من اسقاط بعص المفاهيم على الواح الصبار ، وشجر الزيتون الذي يحيط معظم قرى فلسطين من خلال حوار رائع ما بين الجد والحفيدة زينب ، فالصبار له دلالة رمزية على الصمود والصبر ، وشجر الزيتون الذي تمتد جذوره إلى الاف السنين . فهو رمز للوطن والانتصار والخلود .
وفي معالجة الواقع السياسي ، استخدمت الكاتبة الرمزية في حالة أخرى ، وهي اظهار صورة الأفعى في المنام ، وكانت اشارة رمزية لوجود عدو، فرؤية زينب لأفعى في المنام ( واستنجاد زينب بعمها بكر الذي أسرع إلى اقتلاع صخرة ضخمة ، وألقى بها نحو تلك الأفعى )، كان تعبيراً فلسفياً ذو اتجاهين ... الاتجاه الأول هو التمسك بالحياة ومقاومة الموت . والاتجاه الثاني هو من قاتل أفعى ، سيقاتل عدواً .
وكشفت لنا الكاتبة عن حالة أخرى تمثل الرمزية الواقعية ، وهي مخاطبة عقول أطفال قرية دير ياسين ، ووضعتهم في حالة تقييم اجتماعي لسلوكيات ونفسية الطفل في القرية من خلال حكاية شعبية طرحتها بين سطور روايتها وهي ( صندوق العجب ) . وقدمت للقارئ صورة حية لرفض واحتجاج أطفال القرية على حكاية الراوي ، وبتصرف عفوي تم رجمه بالحجارة قبل أن يكمل الحكاية ، وهذه سلوكيات تعبر عن حالة القلق الموصول بالوعي والادراك المبكر لدى الطفل الفلسطيني وما يدور حوله من أحداث، فالحكاية التي بثها الراوي تعكس رؤية لواقع فلسطين السياسي قبل النكبة ، وعدم تفاعل الاطفال مع الحكاية كان بسبب عرض نبرة الهزيمة التي تجلت في كلمات الراوي عن البنات الأربعة والارض الخصبة ( فلسطين ) التي كانت محط أنظار الطامعين ، فالهزيمة والسقوط بدأ من الغول المجهول الذي يمثل الخوف ، والمشرد الذي يمثل الصهيوني المغتصب واسلوبه القذر في السيطرة على الارض بالقوة ، أما الرجل الاعور ذو العين الواحده فكان يمثل الانتداب البريطاني اللعين الذي مهد لقيام وطن قومي لليهود .
حشدت الكاتبة كل هذه المفاهيم الرمزية في روايتها وترجمته إلى واقع ونبوءة اعتمدت علية في بناء الرواية حتى الوصول إلى ما حدث في قرية دير ياسين واستعداد أهلها للمواجهة مع الصهاينة قبل الدخول إليها ،فالقرية واقعة في الناحية الجنوبية الغربية لمدينة القدس ، والتي كانت قبل حدوث المذبحة قد التزمت بمعاهدة سلمية مع لصوص اليهود في مستوطنة ( قبعات شاؤول) أو غفعت شاؤول كما وردت في الرواية .
ـ لا عهود لليهود فأين هي العريضة التي وقعها وجهاء غفعت شاؤول مع وجهاء القرية .
أبدعت الكاتبة في تصوير مشاهد تهريب البنادق وادخالها إلى القرية من أجل الدفاع عن أهلها . وبنفس المستوى حرصت على أن تعطينا جرعة أمل في صمود أهل القرية ومواقفهم أمام الأزمات رغم قلة الأمكانيات... لتبرهن على أن أبناء القرية قد عملوا كل ما في وسعهم للحفاظ على قريتهم، ولكن عندما يأتي الخطر تستعد السواعد لرفع البنادق ، وهذا المفهوم وظفته الكاتبة في اختيار عنوان قصتها ( عندما تزهر البنادق ) ، وقد كانت موفقة في اختيار عنوان الرواية لتزيد من حجم ايحائها في مفهوم البنادق التي حملها ثوار القرية ، فالبنادق كانت دلالة لعنوان التحدي والاقتراب من الموت .
ثم وضعتنا الكاتبة أمام جدليه أخرى من خلال شخوص الرواية الذين حملوا بنادقهم في مواجهة العدو وكانوا بين خيارين ... اما الأمل في البقاء أو الفناء والتشرد .
ـ ها هي البنادق تزهر يا جدي ، وها هم أبطال دير ياسين يذهبون إلى الموت دون أن يأتي إليهم .
تميزت قرية دير ياسين بروح المسالمة وتجنب التصدي والمجابهة قبل المذبحة ورسمت الكاتبة صورة رائعة لواقع القرية الاجتماعي المتماسك والمتصل بالعادات والتقاليد، وعبرت عنه في عدة صفحات قبل أن تنقلنا إلى الفترة الأخيرة من حياة القرية واقترابها من الموت ، فقد أبدعت الكاتبة في تصوير تلك المشاهد عند دخول اليهود إلى قرية دير ياسين .. فقد استخدمت اسلوب كتابة السيناريو في وصف الاحداث المتعاقبة وحضور الشخصيات داخل عنصر الزمان والمكان ، ورسمت صورة قبيحة لهمجية عصابات الارهاب الصهيوني الإرغون بقيادة مناحيم بيجن وعصابة شتيرن التي روجت بعد المذبحة في تقارير نشرتها العديد من الصحف ...أن القرية كانت مركزا للمقاومة وهي حجة طالما روجتها أجهزة الدعاية الصهيونية .
ـ انتشرت رائحة الموت في سماء دير ياسين وبين أزقتها مع وجود لأنفاس لا زالت تتجول بين جثث الموتى وترفض الاستسلام .
أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم رؤية وقراءة ولو بسيطة عن الرواية ، وشكرا للكاتبة بديعة النعيمي على ما قدمته من جهد في كتابة روايتها عندما تزهر البنادق .
فالرواية أعادتنا إلى تاريخ مشؤوم في حياة الشعب الفلسطيني وهو .. 9 / نيسان / 1948 , فهذا تاريخ سيئ ليس في ذاكرة بطلة الرواية زينب فحسب ، بل في ذاكرة الشعب الفلسطيني والعربي، لأنه شاهد عصرعلى هذه المذبحةالتي قتل فيها مالا يقل عن 250 شهيد ، جميعهم كانوا من المدنيين ، فالرواية تستحق منا أن نقرأها أكثر من مرة ، لأننا سنخلص إلى نتيجة مفادها أن الحقد والكراهية جزء من تكوين هذا العدو الصهيوني المغتصب ، والذي ما زال يضلل كل شعوب العالم مع كل جريمة يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني ،ويبق السؤال على لسان بطلة الرواية ( زينب )
ـ هل ستنسى دير ياسين عندما يحاصرها جليد الغربة ، وهل ستمحى من ذاكرة الأجيال القادمة ؟؟؟
عثمان الأخرس