الإصلاح السياسي .. قراءة متأنية (1)
جهينة نيوز -د. طلال طلب الشرفات
علينا أن نعترف بأن الحياة السياسية الأردنية تشهد تراجعاً مقلقاً، وأن النخب السياسية لم تعد مقنعة للرأي العام، وأن التمثيل القانوني لتلك النخب في المؤسسات المنتخبة لم يعد مرضياً للأغلبية الطاغية من الشعب، سيّما بعد تفاقم العلاقة الهشّة بين الأفراد والمؤسسات، بحيث أضحت النماذج المنتخبة مدعاة للاعتراض، والسخرية، والتندر من جهة؛ بل بات إعادة اجترار النخب لذاتها في المواقع الإدارية والسياسية مشجباً إضافياً من جهة أخرى.
لم يعد ممكناً قبول التعامي عن تشخيص الواقع الوطني بحيادية وتجرد، والإدراك بأن النخب السياسية قد شاخت للحد الذي لا يمكن قبولها لقيادة المشهد العام، وأن منظومة القيم السياسية والوطنية، والأعراف والتقاليد الإيجابية التي ترافق عادة إشغال الموقع العام قد تلاشت أو تكاد، ولم يعد مقبولاً إعادة تدوير النخبة الحاكمة في مفاصل الدولة تحت مبررات لم تعد مقنعة أو مقبولة للناس، ولا تقترب أبداً من متطلبات الرضى الشعبي.
والحقيقة أن معيقات الإصلاح السياسي يتشارك في أسبابها وتحمّل المسؤوليات الوطنية الناجمة عنها الحكومات، والبرلمان، والمنظمات المجتمعية، والنقابات، والفعاليات الفكرية والعلمية، والأفراد على حدٍ سواء، وأن أي محاولة للمضي قدماً في خطوات الإصلاح تتطلب تظافر الجهود الوطنية المخلصة من الجميع على قاعدة مخلصة من الإيمان بضرورة الانتقال إلى مرحلة جادّة يتحمل فيها الجميع مسؤولياتهم بموضوعية وشفافية، ونكران للذات.
ولأن تشخيص الأزمة يعطي معظم الحلول فقد بات لزاماً على النخب الوطنية المخلصة أن تدرك بأننا لم نعد نملك ترف الوقت للمضي قدماً في خطوات الإصلاح من خلال التفاعل الحقيقي مع التوجيهات الملكية؛ وفقاً لمرتكزات وطنية راسخة ومعايير دولية موضوعية تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الوطنية الأردنية، وفي مقدمتها الاستحقاقات الناشئة عن القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطية، وقضايا الوضع النهائي.
معيقات الإصلاح السياسي في الأردن:
أولاً: شيوع الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
لقد أسهمت الهويات الفرعية في تراجع دور الهوية الوطنية الجامعة التي توحد الأردنيين وأهدافهم وتنقلهم من دائرة المكتسبات الضيقة إلى أفق الوطنية الرحب، وتتمثل تلك الهويات في العشائرية، والمناطقية، والقطاعية، والطائفية، والعرقية وبمستويات ودرجات مختلفة ومتباينة تضيق وتتسع وفقاً للظروف، وتهدأ وتشتد طبقاً للمصالح التي أصبحت مؤشراً ماثلاً في التقييم العام للأحداث والمواقف.
ثانياً: غياب الحياة الحزبية الحقيقية.
ويمكن بيان أسباب غياب الحياة الحزبية بالأسباب التالية:
1- شيوع الهويات الفرعية العشائرية والمناطقية بشكل منظم ومقصود أحياناً.
2- خلو قانون الانتخاب من الأسس القانونية؛ لنشوء الأحزاب ومشاركتها الفعلية في الحياة البرلمانية والسياسية.
3- تلاشي مفهوم قبول الآخر لدى بعض القوى السياسية، وحلول مفهوم الوقيعة السياسية والعداء المعلن تارة، والخفي تارة أخرى بديلاً للتنافس البرامجي الديمقراطي.
4- عدم جدية الحكومة في الإسهام في خلق فضاء حزبي حقيقي ذي أثر في الحياة السياسية.
5- وجود مرجعيات خارجية فعلية لبعض القوى الحزبية التي تستند إلى أسس برامجية أو عقائدية.
6- التأثير السلبي الممنهج لبعض الشخصيات السياسية التقليدية التي تجد ضالتها عادة في غياب العمل الجماعي المنظم والذين كان لهم دوراً في ترسيخ قانون الصوت الواحد.
7- العزوف الاجتماعي الناجم عن منظومة القلق المرافق لطلب إشغال الموقع العام أو الوظيفة العامة.
ثالثاً: ضعف القناعة الشعبية بجدوى تعزيز منظومة النزاهة ومكافحة الفساد، فالفساد جريمة منظمة وكسر ظهره يتطلب اجتثاث الفاسدين من خلال اجتياح مبرمج وشجاع لمظاهر الفساد بالقرارات والسياسات، والتشريعات الوطنية الجريئة والمخلصة من جهة، وإسناد هيئة النزاهة في كل ما يتطلبه عملها من دعم تشريعي ولوجستي ومالي، وتطهير المواقع العامة منهم وهذا يتطلب احتراف وشجاعة في اتخاذ القرار الوطني حيال ذلك وعلى كافة الأصعدة التي تحقق ذلك.
رابعاً: التطبيق الجزئي والانتقائي لمفهوم سيادة القانون.
إن سيادة القانون مفهوم أخلاقي يقوم في جوهره على مبادئ العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص والشفافية وبدون ذلك يبقى الحديث عن سيادة القانون عبثاً مفرغاً من محتواه؛ ذلك أن سيادة القانون تشكل هندسة الأخلاق الوطنية التي تتيح الاستجابة للتضحيات الوطنية في العمل المخلص، والانتماء والشهادة وكل القيم الإنسانية الجميلة التي ترسخ مفهوم المواطنة ومن قبلها الوطنية التي تحفظ للوطن كبريائه وللعلم مكانته.
ولعل التسارع غير المبرر في إجراء تعديلات تشريعية سريعة وغير ناضجة، ووضع معالجات غير منسجمة وربما متناقضة أحياناً مع عدم وجود جهة متخصصة ومحترفة؛ لمراجعة جودة التشريعات وتقدير مدى انسجامها مع التشريعات الأخرى والدستور مما يشكل حالة وطنية تثير الهلع والقلق وتؤشر على أن العبثية التشريعية في كل مراحل التشريع تشي بمخاطر وطنية كبيرة وتفقد هيبة المؤسسات أمام الرأي العام.
خامساً: الإنقلاب المفاجئ لبعض النخب على قناعاتها السياسية.
لقد رسخ قيام بعض النخب السياسية من المعارضة بالمشاركة في الحكم دون مراجعات فكرية أو أخذ موافقة المرجعيات التنظيمية إلى فقدان الثقة بالقيادات الحزبية بحيث أضحى المفهوم السائد أن ركوب موجة المعارضة هي لغايات الوصول إلى موقع القرار بعيداً عن القناعات السياسية أو الأسس البرامجية أو حتى الحوار حول برنامج الحكومة ودراسة مدى انسجامه مع الثوابت الفكرية أو المنطلقات العقائدية.
ومما يؤكد على ذلك أن بعض الحكومات درجت إلى استقطاب بعض قيادات المعارضة؛ لتوجيه رسائل غالباً ما تكون ممنهجة؛ لإقناع الجمهور من جهة، ولجم أصوات مزعجة للحكومة بحيث ينتهي هذا القلق من تلك الأصوات مع أداء اليمين، وإذا كان يمكن إجازة ذلك في الإطار الديمقراطي من حيث المبدأ إلا أن التجارب التي شهدها الأردن في العقد الأخير تنذر بأن الإشراك في السلطة عدمي، ولا يحقق إلا مزيداً من فقدان الثقة بالنخب السياسية في المعارضة والمولاة على حدٍ سواء.
وللحديث بقية....!