banner
أخبار محلية
banner

احمد ابو سليم : احد الفروقات الأساسية بين الرواية والحكاية ربما هو الفرق بين الصورة وانعكاس الصورة في اذهاننا

{clean_title}
جهينة نيوز -
أَحمد أبو سليم
أَحد الفروقات الرَّئيسيَّة بين الرِّواية والحكاية ربَّما هو الفرق بين الصُّورة وانعكاس الصُّورة في أَذهاننا.
لا أَعتقد أَنِّي حاولتُ أَن تبدو فلسطين في رواياتي مثل سبَّابة ملتهبة.
من الجائر النَّظر إلى القضيَّة الفلسطينيَّة من منظار أُحاديِّ التصوُّر.
الحاسَّة صفر كانت محاولة لتسليط الضَّوء على فترة معتمة من تاريخ الثَّورة الفلسطينيَّة.

أَتصوَّر أَنَّ الدَّعوة إلى كتابة الرواية الفلسطينيَّة، تندرج ضمن حركة التَّجريب الَّتي هي الأَصل في كلِّ إبداع كيفما كان جنسه أَو نوعه، فالتَّجريب بمعنى من المعاني، يحيل إلى تجدُّد الرؤية الفلسطينيَّة، وهو الصِّراع ضد السُّكون والثَّبات والتوقُّف النِّهائيِّ عند حالة لا يشوبها التَّغيير والاستمرار(بالمعنى الماديِّ طبعاً) وهذا ما سعى إليه الرِّوائيُّ أَحمد أَبو سليم منذ روايته الأُولى "الحاسّة صفر" وصولاً إلى روايته الأَخيرة "يس" الصَّادرة قبل أَيَّام عن الاتِّحاد العام للكتَّاب والأُدباء الفلسطينيِّين، فكان معه هذا الحوار.

حاوره سليم النجار


س: تحضر الأَفكار والرؤى والتأمُّلات الفلسفيَّة في تجربتك الروائيَّة، فهل نظرت لفلسطين من هذه الزَّاوية على وجه التَّحديد؟
ج: بالتأكيد...طبعاً، وذلك باعتقادي أَحد الفروقات الرئيسيَّة بين الرِّواية والحكاية، وربَّما بين الصُّورة وانعكاس الصُّورة في أَذهاننا.
إنَّ العقليَّة المشبعة بالقدرة على التأمُّل وإعادة تركيب المشهد انطلاقاً من فلسفة واقع هذا المشهد، وامتداداته، وجذوره، ودلالاته، لهي عقليَّة قادرة على إنتاج وعي مغاير، أَعني وعياً قادراً على سبر ماهيَّة الثَّابت، أَو ما قد يبدو للوعي ثابتاً، وتحويله إلى متحرِّك ما يعيد إنتاج الصُّورة المكوَّنة في الذِّهن من جديد، وبطريقة مختلفة.
لقد مارست هذا الدَّور في معظم رواياتي، حين وقفتُ أَمام طبيعة الصِّراع وتحوُّلاته في رواية كوانتوم، وبعد ذلك في رواية بروميثانا، ثمَّ أَخيراً في رواية يس، حيث عدت لفلسفة الصُّور الَّتي كوَّنتها أَذهاننا عن مجزرة دير ياسين.
نحن لم نكن الفاعل في المجزرة، ثمَّة إذن من كان فاعلاً، أَعني متحرِّكاً ومؤسِّساً ومنتجاً للصُّور، ولأَنَّه عدوٌّ، فبالضَّرورة سيحاول هذا العدوُّ تشويش زاوية الرؤية من أَجل الوصول إلى تكوين صورة تخدم مشروعه في أَذهاننا، هذا يعني أَنَّه يحاول خداعنا، خداع وعينا، وبالتَّالي، سيتطلَّب ذلك إعادة تفكيك المشهد كاملاً من أَجل رؤية ما خلفه، وذلك لا يتأتَّى إلاَّ من خلال الفلسفة.

س: يقول أَلبير كامو في تعليقه على رواية صديقه جان بول سارتر، الغثيان، ما الرِّواية إلاَّ فلسفة خياليَّة، وفي الرِّواية الجيِّدة تختفي الفلسفة في ثنايا الصُّور الخياليَّة، ولكن ما إن تنسكب الفلسفة متدفِّقة من الشَّخصيَّات والأَحداث، حتَّى تبرز ناتئة مثل السبَّابة الملتهبة وتفقد الحبكة مصداقيَّتها، والرواية حياتها، فهل كانت فلسطين في روايتك مثل السبَّابة الملتهبة؟
 ج- ثمَّة مدرسة أَدبيَّة تحاول الفصل بين الرِّواية والفلسفة، بحجَّة أَنَّ الرِّواية موجَّهة لعامَّة النَّاس، البسطاء منهم، والفلسفة هي لعبة النُّخبة في محاولة تفسير هذا الواقع.
قد يبدو الأَمر كذلك للوهلة الأُولى، لكنَّ تلك النَّظريَّة لا ترى في الحقيقة أَنَّ الواقع متحرَّك وليس ثابتاً، وأَنَّ البشر لا ينتمون لطبقة وعي واحدة، ولكنَّ من يسيِّر الماكنة البشريَّة إلى الأَمام هم المفكِّرون، أَعني العباقرة الَّذين يزاوجون بين الخيال والوقع.
إنَّ إنتاج أَدب بسيط – بمجمله- لا يمكن أَن يرتقي بالوعي البشريِّ، من هنا كان لا بدَّ من التَّفاوت في مستوى الأَدب، البير كامو رفض فكرة الفصل بين الفلسفة والرِّواية، بل إنَّ القائل إنَّ الرِّوائيِّين العظماء، هم فلاسفة عظماء، القارئ شخص متعطِّش إلى المعرفة، وعلى الكاتب أَن يلبِّي هذا الشَّرط، وإلاَّ ما فائدة الرِّواية إذن؟
التسلية فقط؟ ستفقد الرِّواية آنذاك محتواها.
أَتَّفق مع ألبير كامو في طرحه، فالرِّواية ليست كتاباً جافَّاً، وعلى الكاتب أَن يخفي فلسفته خلف الحكاية والحدث والشَّخصيَّات، من هنا لا أَعتقد أَنَّني حاولت أَن تبدو فلسطين في رواياتي مثل سبَّابة ملتهبة، بل قدَّمت كلَّ أَفكاري عبر شخصيَّات وأَحداث مشوِّقة تشدُّ القارئ إلى متابعة القراءة، وكنتُ أُعيد تعريف الواقع والحياة، وفلسطين على مستويات مختلفة عبر تلك الأَحداث والشَّخصيَّات، وأَطرح مئات الأَسئلة المشروعة المتناسقة مع طبيعة الشَّخصيَّات والأَحداث، فكنت بذلك أُقدِّم وجبة فكريَّة دسمة للقارئ البسيط، والقارئ المعقَّد في آن واحد، في قالب ممتع.

س: هاجم بعض النقَّاد تسمية روايتك " ذئاب منويَّة" فهل كان هذا العنوان سرداً غاضباً على ما آلت إليه القضيَّة الفلسطينيَّة؟
ج- نعم...ليست القضيَّة فحسب، إنَّما الواقع بمجمله، وبقيت مصمِّماً على العنوان رغم معارضة الكثيرين له قبل النشر.
البعض أعلنوا مقاطعتهم للرواية من العنوان، وأعلنوا أنَّهم لن يقرأوها بسبب العنوان، وثمَّة من اتَّهمها بالدَّعارة الثَّقافيَّة دون أَن يكلِّف نفسه عناء قراءتها، أَنا أَعتقد أَن الماء الرَّاكد بحاجة إلى خلخلة من أَجل أَن يتخلَّص من رائحته النَّتنة، والرِّواية بدءاً من العنوان حتَّى نهايتها كانت تفعل ذلك، تخلخل هذا الواقع الآسن، وتحاول أَن تبحث عن مواطن الخلل، وهي كانت تتحدَّث عن إفرازات أَفغانستان والتكفيريِّين، وأزعم أَنَّها تنبَّأَت بالمرحلة التالية الَّتي أَفرزت داعش مع كلِّ تشدُّدها، وقد جاءت التَّسمية على لسان علي بابا أَحد الشَّخصيات المهزومة حين قال: جعلونا يا صديقي مجرَّد ذئاب منويَّة تتصارع على بويضة واحدة، وأَقنعونا بأَنَّ الثَّاني خاسر مثل الأَخير...ضحكوا علينا.....وبالمناسبة فقد تلقَّيت تهديداً بالقتل عبر فيس بوك بعد إصدار الرِّواية بأَيَّام قليلة.
س: سعت رواياتك إلى تمثيل واقعيَّة جديدة تأثَّرت بطروحات ما بعد الماركسيَّة، لا سيَّما طروحات المفكِّرين الفرنسيِّين من أَمثال سارتر وفوكو وأَلتوسير، منزاحة عمَّا كانت عليه في مرحلتيها الكلاسيكيَّة والحديثة من تمثُّل سرديٍّ لواقعيَّات تتماشى مع الفكر الماركسيِّ، هل ما زلت تنظر للقضيَّة الفلسطينيَّة من منظور ماركسيٍّ؟

ج: من الجائر النَّظر إلى القضيَّة الفلسطينيَّة من منظار أُحاديِّ التصوُّر، أَنا أَعتقد، وهذا ما دعوتُ إليه في روايتي الأَخيرة " يس"  أَنَّ على المفكِّر أَن يتحرَّر من قيود الأيديولوجيا مهما كان شكلها، ومهما كانت درجة قناعته الشَّخصيَّة بها، لحظة الكتابة، لأَنَّ هذا يترك له مجالاً لرؤية الواقع على حقيقته من زوايا مختلفة، وبالتَّالي سيعطيه القدرة على التعمُّق في أَفكاره أَكثر، وطرح أَفكار أَكثر حيويَّة، وديناميكيَّة، وقدرة على التَّغيير.
فشل الماركسيِّين في الوطن العربيِّ خلال القرن المنصرم له أَسباب كثيرة طبعاً، ومنها –برأيي- عدم قدرتهم على رؤية الواقع من زوايا أُخرى، وبالتَّالي تكييف النَّظريَّة لتخدم الواقع لا العكس.
إن كانت النَّظريَّة وعاء متخيَّلاً فقد كنَّا بعكس المفكِّرين الفرنسيين الَّذين ذكرتهم نحاول زجَّ البشر في هذا الوعاء رغم علمنا المسبق بأَنَّه لا يتَّسع لهم.
إنَّ لبَّ الفكرة الَّتي ذكرتها في سؤالك يكمن في عمليَّة التَّفكير والنقد الإيجابيِّ الَّذي يحاول أَن يُطوِّر النَّظرة إلى الواقع، من أجل غد أَفضل، وهذا ما تمارسه رواياتي، وهذا بالذَّات ما مارسه أَلتوسير، ولوكاش، وسارتر، وفوكو وغيرهم، وذلك مرتبط بفكرة اللاَّمقدَّس والمقدَّس.
نحن في الشَّرق تعوَّدنا –ضمن بيئتنا التَّاريخيَّة- على التَّقديس، وكان ماركس مقدَّساً، ومثله لينين، عكس المفكِّرين الأُوروبيِّين الَّذين تناولوا الأَفكار بالتَّشريح والنَّقد، فلا فكرة مقدَّسة في نهاية المطاف، وليس ثمَّة شخص فوق النَّقد مهما كان.
 

س: هل كانت رواية "كوانتوم" رواية علميَّة أَردت من خلالها توصيل رسالة من زاوية علميَّة؟
ج: علينا أَن نفرِّق بين العلم البحت، أَي المعادلة الَّتي تعطي معلومة ثابتة حقيقيَّة مثبتة مبرهنة عبر التَّجربة، وبين المعادلة ذاتها الَّتي تخضع من خلال زاوية نظر أُخرى إلى التأويل، والاحتمالات، والتَّفسير.
لا أَستطيع القول إنَّ رواية كوانتوم رواية علميَّة أَبداً، فذلك يعني كمَّاً هائلاً من المعادلات المعقَّدة الَّتي لن يفهمها إلاَّ علماء مختصُّون، ذلك هو العلم.
مع بدايات القرن العشرين، تشابكت العلوم بطريقة خرافيَّة فما عاد الفيزيائيُّ قادراً على الاستمرار دون الكيميائيِّ، والرِّياضيِّ، والبيولوجيِّ، لتفسير نظريَّاته، ولأَنَّ الفلسفة تعتبر نفسها أُمَّ العلوم، وجدت نفسها شأن الأَديان أَيضاً تصطدم بجدار المعرفة العلميَّة، وكان عليها-شأن الأَديان أَيضاً- أَن تهضم العلوم وتعيد إنتاج نفسها من جديد كي لا تتلاشى َأَمام المعارف العلميَّة.
لقد نادى كوبيرنيكوس، وغاليلو بكرويَّة الأَرض، وكادت الكنيسة تعدمهما، لكنَّ نظريَّة الكنيسة تداعت أَمام قوَّة اكتشافات نيوتن العلميَّة، وما عادت قادرة على الاستمرار دونها، لذلك أَذعنت لها.
إن كانت الفلسفة تحاول تفسير الوجود، والكون، والإنسان منذ فجر التَّاريخ، فقد أَصبحت العلوم النظريَّة البحتة ضالعة رغم أَنفها في هذا التَّفسير، وما عادت علوماً جامدة، من هذا المنطلق أَصبحت الفلسفة الحديثة مبنيَّة على العلوم، وجاءت نظريَّة الكوانتوم كي تنسف البداهة البشريّة والمنطق العقليِّ، وهذا ما ذهبتُ إليه في روايتي" كوانتوم" هي رواية فلسفيَّة تتَّخذ من نظريَّة فيزيائيَّة متَّكأً لها، لكنَّها رواية المكان، والحدث، والشَّخصيَّات.

س: مرَّة أُخرى هل سعيت من خلال "كوانتوم" إلى الجمع بين رؤية العلم الفيزيائيِّ، والميتافيزيقا لفلسطين؟
ج: في نظريَّة الكوانتوم، وهي نظريَّة القوانين الَّتي تحكم الجزيئات ما دون الذريَّة، يختلط الأَمر على العقل البشريِّ، ووعيه، وإدراكاته، ويتَّخذ قانون الوجود شكلاً آخر، هو أَقرب إلى الميتافيزيقا، إن كان علينا أَن نعرِّف الميتافيزيقا على أَنَّها نظريَّة ما بعد الطَّبيعة والفيزياء والواقع، بمعنى الوجود الآخر الَّذي لا نراه لكنَّنا نؤمن بوجوده.
كان التَّناقض صارخاً بين الفيزياء الميكانيكيَّة والميتافيزيقا، فهذه تؤمن بالقانون الماديِّ، وهذه تؤمن بالخوارق، لكنَّ الأَمر بدا مختلفاً مع نظريَّة الكوانتوم الَّتي بدت وكأَنَّها نوع من الخوارق.
ثمَّة ما لم يستطع العلم حتَّى اللَّحظة تفسيره، أَو وضع قانون له، بعض الخوارق، مسأَلة التَّخاطر، قوَّة الإحساس، الحاسَّة السَّادسة، الخ....ويقف العلم عاجزاً أَمام تفسير الوعي، وقدرات العقل، والاتِّساع الهائل لهذا الكون، وصِغر الإنسان أَمام عظمة الوجود، وخوارق الصُّوفيَّة، والموت ذاته، لذا ثمَّة الكثير من المفكِّرين والعلماء لجؤوا إلى تفسيرات تبدو ميتافيزيقيَّة في الظَّاهر، لكنَّها في حقيقة الأَمر نابعة من نظريَّة الكوانتوم الفيزيائيَّة، كالعوالم الموازيَّة، وخوارق اللاَّشعور، والاحتمالات المتمثِّلة بالنَّظائر، وغيرها.
س: رواية "الحاسَّة صفر" كانت روايتك الأُولى، وهي إطلالة عنيفة على المشهد السِّياسيِّ الفلسطينيِّ، كيف تعلِّق على ذلك؟
ج: الحاسَّة صفر كانت محاولة لتسليط الضَّوء على فترة معتمة من تاريخ الثَّورة الفلسطينيَّة، وهي في جزء منها تجربة شخصيَّة، وقد فجَّرت الواقع حين أَطاحت بصورة المقاتل النمطيَّة وجعلته بشريَّاً من لحم ودم، وسلَّطت الضوء على كثير من الأَخطاء في محاولة للدَّعوة إلى تصحيح المسار.
لكي تفهم الحاضر عليك أَن تعود إلى الجذور، إلى العوامل الَّتي تشكَّل منها الحاضر، ليس درساً فقط، وإنَّما تفكيراً وتحليلاً وغوصاً في أَعماق الأَسباب والمسبِّبات، لذلك كانت طريقة في الهدم الإيجابيِّ من أَجل إعادة البناء، كما عبَّر عن ذلك النَّاقد مجدي ممدوح، وهي تندرج ضمن الفكرة العامَّة لأَعمالي الرِّوائيَّة: عليك أَن تزلزل هذا الواقع، هذا الماء الآسن، كي تجعله يتخلَّص من رائحته النَّتنة، كنتُ دائماً أُريد أَن أَصدم القارئ، وسعيت إلى ذلك، لأَنَّني أُدرك تماماً أَنَّ ما ترسَّخ في وعي القارئ هو السَّبب الرئيس في كلِّ تلك المآسي الَّتي نعيشها.
  • {clean_title}
  • {clean_title}
تابعو جهينة نيوز على google news