الإنسان – في المقام الأول – كائنٌ اجتماعي
جهينة نيوز -هذا ما نادت به مدرسة التحليل النفسي في القرن العشرين، وهذا ما شددت عليه المجتمعات الغربية أيضًا في ذات القرن، ولا ننسى ابن خلدون الذي سبق هؤلاء في مقدمته بعبارته: إن الإنسان اجتماعي بطبعه و هذا يعني أن الانسان فطر على العيش مع الجماعة و التعامل مع الآخرين؛ فهو لا يقدر على العيش وحيدا بمعزل عنهم .. مهما توفرت له سبل الراحة و الرفاهية.و حتى كلمة انسان جاءت من الأنس .. فهو يستأنس بمن حوله يعيش و يتعايش معهم ، و ينتج عن هذا التعايش تبادل في الأفكار و الثقافات في العادات و المعتقدات ؛ يتأثر بهمويتأثرون به، و بذلك تتكون شخصية عبارة عن مزيج من خبرات و مهارات متنوعة اجتماعية - ثقافية - إنسانية - علمية و عملية .
كل ما سبق يشعرنا بمشهد اجتماعي إيجابي؛ ولكن لماذا يختار البعض العزلة؟ لماذا تتولد الرغبة لديهم في التخلص من كل الأشخاص الذين يحيطون بهم؛ لماذا يعزفون عن مقابلة الناس أو التواصل و الاتصال بهم؟؟ فيكتفي المنعزلون ذاتيا بالاتساق مع ذواتهم في مواجهة المواقف بعيدا عن أفكار و رغبات و آراء الآخرين؟
العزلة أو الانطواء تم تصنيفها على أنها من الأمراض النفسية الشائعة في مجتمعنا و سائر مجتمعات العالم؛ لأنها تخالف النمط الاجتماعي المتعارف عليه للفرد،ولا بدّ من الإشارة إلى أن العزلة لا تعني الوحدة، حيث تشير العزلة إلى السعادة بكون الشخص بمفرده، بينما تشير الوحدة إلي تألمه من كونه بمفرده؛ فالإنسان قد يشعر بالوحدة وهو محاط بالعديد من النّاس، وذلك لأنه فقد القدرة على التّواصل معهم لسبب نفسي أو عضوي، وقد يكون الإنسان متزوج ومرتبط وعنده عمل ناجح فيه على جميع الأصعدة، وبالرغم من ذلك يعيش وحدة داخلية تؤلمه وتسبب له الحزن والكأبة والهم، في حين أن الإنسان قد يكون سعيدًا في العزلة لأنها توفر له بعض الوقت الخاص.
من المعروف أن لكل مرض أعراضه و أسبابه، فأما عن أعراض العزلة فهي نفسية ومن مؤشراتها القلق، الاكتئاب، الخمول،الإحساس باليأس، النزعات الانتحارية،، وتدني الثقة بالنفس وحتى الشعور بالدونية .. أما الأعراض الجسدية كما تم تحديدها من قبل المختصين في الطب النفسي : الصداع، الخمول، فقدان الشهية أو زيادة في الوزن، اضطرابات النوم، وقلة النشاط. وهناك أعراض سلوكية قد نجملها بشراهة التدخين، تناول الخمور/وتعاطي المواد المخدرة.
لكن ما الذي يدعو بعض الأشخاص لاختيار العزلة إراديّا ؟
تتعدد أسباب العزلة؛ فقد ينتقل الشخص من حالة الانعزال الجزئي إلى حالة الانعزال الكلي، ومرور الشخص المُصاب المنعزل بأسباب تربوية أو بيئية أو هواجس أو التعرض في مرحلة عمرية معينة لشيء ما، قد يكون سبب مباشر في إصابته بمرض العزلة النفسية.ولتفسير هذه الأسباب فقد يكون نمط التربية الأسرية سببا في حدوث العزلة؛ فعندما يستخدم الوالدن أسلوب التخويف لمنع ابنهم من مخالطة أقرانه في الحي بهدف حمايته، قد يتحول شعوره بالبعد عن الآخرين لاحقا و بمرور الوقت إلى حاجة لتحقيق الأمن، أو عندما يقوم الوالدان بمعاقبة ابنهم بعزله في غرفته و منعه من الخروج لوقت معين كإجراء تأديبي له لتعديل سلوكه؛ مع مرورالوقت قد يحدث أن عقاب العزل لم يعد يؤثر فيه فشعوره بالألم قد يتحول إلى شعور باللذة و المتعة لجلوسه مستريحا متسليا بألعابه المختلفة. أما السبب الهاجسي: فقد ينشأ شعور لدى أحدهم بأنه دائما على صواب و الآخرين على خطأ،ويشعر أن رأيه أو مشاركته غير مستحبة أو قد يستخسر فيهم إعطاء الرأي لأنهم لن يقدروه على كافة الأحوال؛ حينها يفضل الابتعاد عنهم .
وقد تكون المرحلة العمرية سببا في العزلة؛ وذلك للتغيرات الفسيولوجية لدى المراهقين في مرحلة معينة، قد يكون معظمنا مرّ بهذه المرحلة و للتغيرات التي تمر بها أجسادنا نحاول الانعزال لعدم رضانا عن أصواتنا أو ملامح وجهنا وغيرها قد تكون مرحلة انتقالية فحسب.. ولكن قد يقع بعض الأشخاص فريسة فقدان الثقة بذواتهم نتيجة عدم الرضا وتستمر معهم لاحقا؛ فتكون العزلة خيارا سهلا لهم لعدم قناعتهم بما هم عليه.
أما السبب الأخير فهو السبب النفسي فقد تتصاعد وتيرة القلق و التوتر( ومجموعة من مشاعر الحزن و الألم) لدى البعض، فتعرض الأشخاص إلى العزلة ، فتكون محطة القلق المساحة التي تشغل الأشخاص، وقد تعتري حالة من مشاعر الحزن المؤلمة الشخص نتيجة فقد الأحباء،أو صدمة من نهاية علاقة على اختلاف أنواعها، فحينها تظهر مشاعر الذنب و لوم الذات وأن الحياة لا تستحق العيش بدون أحبائنا وحتى الرغبة في الموت حينها يفضلون اعتزال ما حولهم كي يتفادوا زيادة القلق و الألم الذي يعانون منه.
العزلة عندما تكون اختيارية فهي مسألة جزئية مرتبطة بالحالة التي نشعر بها، فاعتزال الناس و إيقاف التواصل معهم لزمن معين؛ مطلب نحتاجه أحيانا ؛ استذكر مقولة ( غوته) "عظيم هذا الهدوء العميق الذي أحيا فيه و أنمو ضد هذا العالم، هدوء أحصد فيه ما ليس في استطاعة أحد أن ينتزعه مني و لو بقوة الحديد و النار."
عندما ننشد العزلة اختياريا فتكون متطلبا نفسيا لاستشعار الهدوء و الخلوة بالنفس و التأمل و التفكير العميق لا شك بأن للعزلة فوائد .. فكما يقال رب ضارة نافعة على وجه آخر. لكن إتقان العزلة فن قد يتمخض عن هذا الفن عبقرية و إبداع ... هي ليست دعوة لاعتناق العزلة لأن آثارها السلبية على مستوى الصحة النفسية و الاجتماعية كثيرة و قد تكلفنا الكثير لا سيما على صعيدنا الشخصي.
لمن يتقن فن العزلة فيمكن أن تكون عزلته كالأرض الخصبة لتحفيز التحول الذاتي .. فقد نجد كثيرا من الأشخاص الذين اختاروا نمط الحياة التي تنسجم مع توقعات الآخرين، وهم يكبتون احتياجاتهم في دواخلهم، يعيشون وهم في حالة انصياع تام؛ لكن من اتخذ من العزلة فنا يحاول أن يصل إلى احتياجاته الداخلية و يكتشفها هي فرصة لمعرفة الذات أو كما يقول عالم النفس ( كارل يونج) ( العمل الداخلي) يستطيع أن يحقق نوعا من الاستقلالية و الاعتماد على الذات.
لا ننكرأن العزلة تعكس طقوسا من طقوس بعض الديانات هي فرصة للاختلاء بالنفس و التفكير، و مساحة شخصية للإنسان يجول في داخل نفسه فيضبط بوصلته الداخلية؛ بهدف تصحيح مسار حياته بناء على احتياجاته، أجد في العزلة عندما نتقنها كفن الجزيرة التي نقطنها لفترة لنتعرف إلى أنفسنا، نكتشفها.. فنصوغ قيمها من جديد .. أجد فيها حبّا عميقا طبيعيا للذات ليست أنانية بل أن نقدّر أنفسنا و أن نعرف احتياجاتها فنقع في حبها، حينها نستطيع أن ننفض غيوم العزلة و نغادر جزيرتها، لنبدأ حياة اجتماعية صحية، نستطيع أن نخدم فيها الآخرين و أن نحبهم أن نتفهّمهم بشكل أفضل من ذي قبل.
د. مرام أبو النادي
أستاذة الإدارة التربوية – إدارة المعرفة - جامعة البترا