قصة قصيرة بعنوان: "طقوس مخيمي"
جهينة نيوز - كلهم فرحون، كُلٌ اختار مجازه الخاص في التعبير عن فرحه بعد شتاءٍ قاس معتاد.
حقول قد استعادت نضارة شبابها، تتراقص فرحا على أنغام أوتارٍ نسجتها أشعة الشمس وتعزفها هبات نسيم رقيق. طائر الزريقي اخذ يحزم أمتعة المغادرة. أُمي والجارات على عتبات منازلهن، تكاد لا تسعهنّ الأرض فرحا بعد استعادة عملهنّ المؤقت السنوي في قطف أوراق الملوخية. ونحن أيضا قمنا من سباتنا وانفضت عبائة الشتاء عنا.
عدنا للعبث ولشيطانيتنا. نقطف ثمار اللوز، الكرز والاسكدنيا في طور خداجها من دون رحمة. ما ذنبنا إن كانت تنمو برعونة!.. لا نغادر إلا عند سماع تعويذة (أم إسحاق) صاحبة الأرض. عجوز سبعينية قد خط محراث الزمن على وجهها وأكاد أجزم أن السواد لم يلزم شعرها يوما!.. لا يروق لها أن نقتحم أرضها. كساحرة حقيقية تُخرج برأسها من النافذة وتصرخ: " يكطع اهلتش انت وياه بره... بره!..". كنت أطولهم وأدكنهم بشرة فكانت تُصحبها ببعض التخصيص وتقول : "أنت يا عبد يا أسود".. وبين كرٍ وفر نقضي على محصولها باكرا.
وكنوع من التسلية نطرق بعشوائية على أبواب بيوت الحي في أوقات لا يحبذ استقبال الضيوف فيها ونلوذ بالفرار حتى لا يكتشف أمرنا. وحرصاً منّا على إقامة العدل نقوم باستبدال أحذيتنا الممزقة من أمام المساجد بأخرى رتيبة مستغلين خشوع الناس المؤقت في الداخل.
أسيغفر الله لنا هذا؟..
أظنكم بدأتم تدركون أنّ مثل هذه الأفعال لا تصدر إلّا من فتية صغار طائشين، وضبابية صورتنا بدأت بالانقشاع. وهكذا انكشف أمرنا!..
لا ننكر أن "هرمون (التستيرون) - Testosterone" كان محدود الإنتاج في أجسادنا تلك الفترة. وهذا يفسر طفولية وجوهنا بعض الشيء وأصواتنا الناعمة القبيحة وأذهاننا لم تصل للنضج الكافي بعد. كبقية الفتية نمارس حقنا بما يسمى الطفولة، ولكن على طريقتنا الخاصة...
الطفولة التي لطالما جحدناها في عقولنا الباطنة فكانت عيباَ وخرافة! كمن تقبّله أمّه قبل النوم أو حتى بأولئك الذين يؤمنون بوجود التنانين.
وبحكم طبوغرافية المكان الذي يحوينا وذكرى أليمة تعشش في أذهاننا، ولد كل واحد مّنا هنا بكبرياء موروث يؤمن بتفرّد شخصه عن المحيط الخارجي. فهو يمتلك بداخله تلك الفجوة السوداء ما بين طفولة تبررها نعومة الأظافر ورجولة مبكرة تفرضها أحكام المكان، مبتلعة كل ما يلحق بها من التبعات.
نحن هنا لا نبكي، لا نخاف الأشياء التي تخيف الآخرين فلا ننام وبأحضاننا الدُمى المحشوة! لا نتبادل المشاعر المفرطة! أمي، أمه... بل وأمهاتنا جميعاً لم يقدمنّ عناقاً واحدا قط لأي أحد ٍ منّا عند ذهابه إلى المدرسة...
أراهن أنّكم بدأتم تخمنون أيضا المكان الذي نعيش فيه فهو عشوائي بعض الشيء. البيوت هنا متلاصقة ومشتركة الأسوار، تغطي الأسقف المعدنية الصدئة (الزينكو) أغلبها. صوت ارتطام حبات المطر بذاك المعدن الهرم الموشّح بالبنيّ في صمت الليل ما زال يطربني، كانت سيمفونيتنا المفضلة قبل النوم. أمّا بعضها فقد تجردت منها لتناسب محطة رصد فلكية!.. مياه الصرف الصحيّ جليسة الشوارع على الدوام وصناديق المساعدات الغذائية من "الأونروا" تملأ مكبات النفايات.
نعم! أعلم أنكم حذقي الذكاء وقد تمكنتم الآن من معرفة المكان الذي نقطن فيه....
إنه مخيم للاجئين الفلسطينيين... وأنا الطويل صاحب البشرة الداكنة, أتذكرتموني؟ أعلم أنكم تنتظرون مني الإفصاح عن اسمي!
لطالما كرهته، اعتقد أنّ فيروز عندما غنّت وقالت : "أسمينا شو تعبوا أهلينا تالاقوها... "، لم تكن تقصد والديّ، أسموني ورد! وهو اسم ذو طابع أنثوي، لا يتناسب مع محيطي.
اعتقد انّي قد أفرطت بإقحامكم في تفاصيل مملة! وأنّ الوقت قد حان لوقف هدر الشغف بمعرفة المزيد لديكم. فبين ثنايا ذاكرة الأيام الخوالي الجميلة استذكرت واحداُ من أمتع الطقوس التي كنّا نمارسها في مثل هذا الوقت من السنة.
ندنو من نيسان ووفقا لعرف مخيميّ! ها نحن على مشارف الدخول في موسم الطائرات الورقية فلكيا. الموسم الذي نتصارع فيه للظفر بلقب "طائرة المخيم الأولى". والأمر ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض. فهنالك معايير ومقاييس يتحتم الوصول إليها في طائرتك لتتمكن من التغلب على ذاك السرب من الجوارح هناك.
تبدأ بالإنتقاء الجيد للقصب، بإختيار العود الأقسى والأخف للحصول على ذاك الهيكل بخواص كربونيّة.
قاصدين تلّةَ مخيمنا كما كل عام كسرب من الجراد مجتثَّين ما يناسب احتياجاتنا من قصب، ومن لم يحالفه الحظ في اللحاق بآخر عودٍ على التلّة فهو خارج المنافسة لا محالة. فالبديهي أنّ الطائرة الأولى يجب أن تُصنع من أجود المواد لتصل إلى أقصى ارتفاع. لكن لا بأس بخشبٍ رفيع خفيف يؤدي الغرض من بقايا ما يترك النجّارون لأجل المتعة ولتلافي ضياع الموسم المنتظر.
والآن يأتي الدور على الناحية الجمالية للطائرة، التي يعول فيها أغلب صانعي الطائرات في المخيم على ذوقهم الخاص، وبفطرية الإرتباط الأزلي بـ " وطن" كان تواجدنا هنا سببا ليختار الكثيرون ألوان العلم الفلسطيني جسدا لطائراتهم واخرون كانوا يفضلون الأشكال الهندسية المتداخلة والتي ترسم بواسطة الأشرطة الملونة. وفئة أخرى تأبى إسقاط مجازية كلمة "ورقيّة" محافطة على كلاسيكية المصطلح فتختار أطباق ورق تغليف الهدايا ذات الألوان الزاهية والمُكلفة نوعاً ما. وآخرون وأنا منهم ننتظر أن تقوم إحدى البقّالات بإفراغ محتوى أكياس النايلون الكبيرة من "التشيبس" مُنتقين منها الأقل ثقوبا.
أما عن الجزء الأهم في الطائرة وهو المسؤول عن نجاح عملية التحليق وثباتها من عدمه، وهو الجانب التقنيّ وأقصد فيه هنا (ميزان الطائرة). هذه المهمة الأصعب... مسؤولٌ عنها شخص واحد في كل حارة، شخص لديه القدر الكافي من الدقة الذي يخوّله لممارسة هكذا عمل حسّاس ومصيري.
يدعى مهدي، يدعونه هنا "بالفلامنغو" يكبرنا جميعا، يلدغ بالراء في كلامه ولديه سمعة طيبة وباع طويل في هذا المجال. يُقال! (يداه تلتف بحرير) واكتسب شهرته ولقبه هذا من حادثةٍ قديمة.
يُقال أنه صنع طائرته الخاصة ووصل بها لإرتفاعٍ شاهق حيث استمرت بالتحليق لساعةٍ متأخرة. أخذ الضوء بالتبدد فغدت رؤيتها شبه مستحيلة وفجأة أصابها خطب ما ففقد السيطرة عليها!.. الخيط أخذ بالتراخي وقوة شد الطائرة بدأت تضعف تدريجيا... خرجت الأمور عن سيطرة مهدي وبدأت الطائرة تهوي. ساعات من البحث المتواصل عنها، وجدت بحال يرثى لها والثقوب تملأها من كل جانب. عَلقت بها عدّة ريشات وردية اللون.
الأسطورة تقول أنّ مجموعةً من طيور الفلامنغو المهاجرة قد أسقطت الطائرة الإستثنائية. ومنذ ذاك اليوم ذاع صيته في المخيم وصار اللقب ملازماً له. ويقال أيضا أنه ما زال محتفظاً بتلك الريشات في صندوقٍ خاص أسفل سريره.
ولتحصل على طائرة منافسة، عليك مباركتها من يديه الساحرتين – يدا الفلامينغو…-
متجرداً من ايّةِ معادلةِ تفاضُلٍ وتكامل, وباعتمادٍ كُليّ على عينيه الثاقبتين, يقوم بضبط تلك الثلاثة نقاط في الجزء العلوي والسفلي للطائرة والتي تحافظ على اتزانها في عمود الهواء أثناء طيرانها.
الجميع يضع لمساته الأخيرة...
الطائرات باتت مستعدة للإقلاع...
بضعة ساعات من محاولات التحليق المتكررة وسيعم أرجاء المخيم خبر الطائرة التي فازت باللقب. ليلتحق البطل بأقرانه من الأعوام الماضية...
يومها كنّا نصنع لأنفسنا حلمنا الخاص ونطير به عالياً من دون ترددٍ أو خوف، كنّا نفعلها من العدم ومن اللاشيء... اليوم أنا أحاول صناعتها لإبني (عمر ورد ) كي يظفر باللقب بعدما فقدت هذه اللذة لعشرين عام.