"المشرق تعزيز للجوامع بعيداً عن الفوارق"
جهينة نيوز -تختزن الذاكرة الجمعية لأعمدة الأمة الأربعة (العرب والترك والكرد والفرس) خلاصة تجربة الحضارة العربية الإسلامية عبر التاريخ، وهي ذاكرة تقوم على إنجازات إنسانية عميقة في مجال الفلسفة والطب والعلوم والآداب. إن مجرد استدعاء هذه الذاكرة، واستعادة منجزاتها، يجعلنا نتساءل عن مبررات الدعوة لاستعادة دور "المشرق” في عالم اليوم، الذي يقوم على تكتلات عديدة لها أسبابها ودوافعها السياسية والاقتصادية؛ إنّ مبرّرات استعادة دور المشرق مشروعة في زمن استفحال صراع القوى السياسية الدولية على أرض المشرق التاريخية، ونعتقد أن هذا أوان استعادة دور المشرق الفكري والحضاري والإنساني، وبالتالي تأكيد دوره وتفعيل حضوره، الذي يتحقق في الجوامع الثقافية والذاكرة الجمعية لأعمدة الأمة الأربعة.
إن العودة إلى أدبيات أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين، بمراجعة الصحافة في بلاد الشام ومصر وصحافة المهجر أيضا، تطرح فكر”النخبة” الذين كانوا ينادون بنهضة "الشرق” وباستعادة دور "المشرق” الحضاري، فقد كانت الأديبة ميّ زيادة والكاتب اللبناني المهجري أمين الريحاني وغيرهم من الشخصيات المبدعة، ينادون في محاضراتهم ومقالاتهم بنهضة "المشرق”، ويؤكدون أن للمشرق شخصية حضارية يجب أن يتم إيقاظها وبعثها من جديد، في إشارة إلى الإحساس بالحضور الفكري والتراثي لروح المشرق مع يقظة روح النهضة.
وقد كان جدّي الملك المؤسس عبدالله بن الحسين على وعي بدور المشرق، وبضرورة بعث دوره من جديد، فقام بطرح الفكرة في زيارته لطهران على شاه إيران، وجدّدها في زيارته لتركيا، وحرص على إقامة تمثيل دبلوماسي للمملكة الأردنية الهاشمية في أفغانستان، مع مطلع الخمسينات من القرن الماضي، في حين كان مشروعه القومي يقوم على الوحدة الحتمية "لسوريا الكبرى” التي كان يراها قلب المشرق وروحه النابضة، وهذه مقدمات لا يمكن إغفالها عند الدعوة لاستعادة دور المشرق في عالم اليوم، إنها الركيزة التي تجعل من هذه الدعوة حالة لها خلفياتها التراكمية في وجدان شعوب المشرق.
و”المشرق” ليس مصطلحا جغرافيا تقليديا، فهو إقليم له مكوناته العميقة، بمساحات مركزية في قلب العالم، وتعداد سكاني يصل إلى مئتي مليون نسمة وبمكونات ديموغرافية تختزن تراثا وفيرا وعميقا من الفكر والثقافة والثراء الروحي، ومقومات اقتصادية هائلة لا يستغني عنها العالم، وهذا يجعله وحدة مركزية تقف جنبا إلى جنب مع التجمعات القائمة مثل دول، الفيزا غرادو أسيآن، وهيئة أوروبا الاقتصادية، فلماذا نعطل كل هذه الفعاليات في هذا الإقليم ونُجمّد دورها في المشاركة بصناعة الزمن القادم؟
هل يصبُّ هذا التعطيل لكل هذه الفعاليات في مصلحة دول المشرق، أو في المصلحة الدولية والإنسانية؟ وإلى متى تبقى هذه الفعاليات بعيدة عن المشاركة في صنع القرار العالمي؟
نحن على وعي تام بالاختلافات والتحديات التي يمكن أن تقوم في وجه تحقيق وحدة "المشرق” فهذا عالم مختلف عن مطلع القرن الماضي ومنتصفه أو حتى ما قبل التسعينات منه، لكن العالم المتغير مازال بحاجة إلى روح المشرق بالدعوة لإيجاد صيغة علاقات تستند إلى كرامة الإنسان والتكافؤ والاحترام المتبادل والعيش المشترك وإلى العدالة وسيادة قيم التسامح، والقبول بالتنوع وتعظيم الحق في الاختلاف، وتعزيز أهمية التعددية الثقافية واللغوية والدينية، باحترام الهويات الفرعية والخصوصية الثقافية، ورفض الإقصاء أو الإلغاء، كل هذه القيم الإنسانية التي اهتزت في زمن ممارسات أشكال الإرهاب والخوف، والتي جرى بعض أحداثها على أراض من إقليم المشرق بطريقة مؤسفة، يجعلنا أكثر إصرارا على تفعيل فكرة هذا التجمع، لاستعادة دور المشرق في التشكّل والتجدّد والبقاء وإثبات الحضور.
إن ما نحتاجه هو وضع قواعد لعقد اجتماعي لتنظيم دول إقليم المشرق، وتأكيد أهمية بناء دول تحكمها القوانين التي تقوم على احترام حقوق الإنسان وضمان كل أشكال الحريات. كما لا يغيب عن بالنا دور المجتمع المحلي في كل دول المشرق، والذي يشكل دعامة قوية لتفعيل دور الإقليم، فقناعة المجتمعات المحلية في دول إقليم المشرق هي الأساس لنجاحه، وهي الأرضية الصلبة التي تضمن رفض الإرهاب بكل أشكاله، وإقامة مجتمع القانون والعدالة والمساواة.
وأخيرا، فإننا نرى في استلهام تجربة "الدستور العربي الفيصلي” كدستور مدني متميز، قام على أسس احترام الآخر، في دولة القانون، حيث استوعبت هذه التجربة قبل قرن، الاختلافات والتعدد الثري على الأرض، وهو نموذج يستحق القراءة وإقامة الحوار حوله، لطرح الصورة المستقبلية للعلاقات في إطار إقليم المشرق، ولا يغيب عن بالنا نجاح الحضارة العربية في الأندلس باستيعاب كل أشكال التعدد على الأرض، وكلها نماذج تستحق الاستلهام، والبناء عليها في استعادة دور دول المشرق، في القيادة الفكرية والروحية لعالم الغد.
فهل نُعظّم معا الجوامع الكبيرة لدى أعمدة الأمة الأربعة، ونستشرف المستقبل بصناعته بدلا من أن تجرفنا الأحداث؟ سؤال لا يمكن تجاهله أو تأجيل الإجابة عنه طويلا.