تعليم التفكير – وفق التحقيقات - هو المجرم الحقيقي وراء حراك الطلبة في جامعات أمريكا والعالم!!
الدكتور محمود المساد
ثَمّة دراسة ذكيّة أجراها الكاتب "روس دوثات" في مقالة له في صحيفة نيويورك تايمز، حاول فيها فهم الأبعاد الحقيقية التي تقف وراء مظاهرات الطلبة، وتحوّل مواقفهم باتجاه دعم القضية الفلسطينية العادلة، ودعم تحرّر الفلسطينيين، مع ملاحظة أن الكاتب لا يُخفي دعمه، وتحيّزه الكامل لـ "إسرائيل".
وتوصّل الكاتب آنف الذكر في تحليله للأحداث، إلى أن طبيعة المناهج التي تُدرَّس في تلك المؤسّسات التعليمية، وأساليب تعلّم الطلبة لها، والمُناخ التعليمي الحرّ الذي يحتضنها، - وخاصة في جامعة كولومبيا – هي بحدّ ذاتها التي تقف وراء هذا التمرّد الطلابيّ المخالف لتوجّهات السياسة التي تمارسها الدول الغربية على الشعوب الضعيفة وتستقوي عليها، وبخاصة على شعوب العالم الثالث.!!
وتبيّن للكاتب أن مناهج جامعة كولومبيا التي تركز على تعليم التفكير، والتعلم النوعي عموما، هو من يقف وراء حراك الطلبة، حيث يتعلمون موضوعات في الفلسفة القديمة، والحديثة، وتاريخ الحضارات، وثورات التحرّر، وتحديات المستقبل. وهذه كلها بنظري كفيلة بأن تُحدِث تغيّرا بل تغيّرات كثيرة في أفكار الطلبة، وتوجّهاتهم، وعقولهم، ومناشط تفكيرهم. وقد تكون ذا أثر بالغ في إحداث صحوة من شأنها أن توقظ الوجدان والضمير الغائب، أو المغيّب، أو المسيَّس.
وأقرّ الكاتب أن الهدف من هذا النوع من التعليم لا شك مثير للإعجاب، ومفيد في آن معا، ذلك أنه يتيح نظرة فاحصة إلى نوع من الأفكار، والنظريات التي تُجمع النُّخَب الأكاديمية الحالية في الولايات المتحدة على أهميتها في تشكيل قادة المستقبل مثل: سِفر التكوين، وسِفر أيوب في العهد القديم، وأعمال الروائي اليوناني إسخيلوس المسرحية، وأشعار ومسرحيات الأديب الإنجليزي "وليام شكسبير"، إضافة إلى كتب الفيلسوف وعالِم الاقتصاد الأسكتلندي "آدم سميث"، وكتابات المؤرخ والمنظّر السياسي الفرنسي "ألكسيس دي توكفيل"، فضلا عن قراءات في العلوم ومشاهدة العروض الموسيقية والفنون الجميلة، إلى جانب مادة "الحضارة المعاصرة" التي تُعنى أكثر بالحجج السياسية، والمؤلفين.
وهذه الكتب، والكتابات تتناول الأنماط التقليدية في حقبة ما قبل القرن العشرين، وتنقل أفكار كاتبيها، وتتمثل في قراءات في أعمال الفلاسفة من أمثال: أفلاطون، وأرسطو، والقدّيس أوغستين، وتوماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو.
كنت في مقالات كثيرة، وندوات متعدده سابقة قد أجبت عن السؤال الرئيس المهمّ الآتي:
ما الذي يحول دون نجاح مؤسّسات التعليم في التحوّل نحو التعليم النوعي، وتعليم التفكير على وجه الخصوص؟
وكان جوابي الذي واجه استغراب الحضور، والقرّاء، وعزّز دهشتهم، هو أن تعليمَ التفكير، وتمكُّنَ الطلبة من مهاراتهم في التفكير المنطقي، والإبداعي، والقدرة على اتخاذ القرار يخيف المعنيّين المتجبّرين الذين يملكون زمام الأمور، وأصحاب الشأن الخارجين عن جادّة الحق والصواب من أن تتجاوز أنماط تفكير هؤلاء الطلبة السقف المسموح به لهم، حيث يتجلى واضحا مكمن الخطورة. ومن جانب آخر يفضلون - أي المعنيون وأصحاب الشأن - التعليم الذي يقود لتعلّم الطاعة، والسطحية في التفكير، وقبول الأشياء، والتسليم بها على عواهنها، من دون محاججتها، أو مماحكتها، نُشدانا للحق والواجب، مع تغييب منظومة القيم، والثقافة الوطنية والانتماء للأرض القطرية؛ لأن هذه الثوابت والحقائق إذا ما خرجت من مكامنها، فإنها تحدث ثورة تؤجّج مضاجع أصحاب القرار، وقد تسلب مناصبهم، وهذا التفسير قد يقودنا إلى ملاحظة خمول الطلبة في الجامعات العربية، وابتعادهم عن القضايا العامة، وتحديات المجتمع المعيشة، والمستقبلية.
وهنا، أبدي تخوّفي من أن يتراجع الغرب عن تعليم التفكير في منظومتهم التعليمية، وفق وعي أبنائهم بما يصنعه التاريخ السياسي والعسكري المعاصر الماثل في هذا العالم الظالم، ويجنحوا بأبنائهم نحو السطحية، بل نحو البساطة في التفكير، وربما الابتذال أحيانا، ويعيدون النظر في مناهجهم بصورة عامة، ومهارات الحياة والمستقبل فيبعدونهم عن كل ما يحقق للإنسانية من أمن واستقرار، وحينها قد يعلن عالمُنا العربي انتصاره في اختياره التعليم القائم على حفظ المعلومات، والحقائق واسترجاعها، وتذكّره لها على مقاعد الاختبار. وعندها نكون قد عمّمنا صفقة التراجع الفعلي في مستوى التفكير على العالم أجمع!!
حمى الله وطننا، وبارك فيه، وبأهله، وصان مستقبله.